مقصد العقل في الإسلام – الحوار الجزائرية

خطبة جامع الجزائر للأستاذ الدكتور عماد بن عامر- 08 ربيع الآخر 1466هـ الموافق 11 أكتوبر 2024م-)

الخطبة الأولى:

الحمدُ للَّه رَبِّ البريَّات، فاطرِ الأرضِ والسَّماوات، أحمدُهُ سبحانه وتعالى حمدًا كثيرا طيِّبًا مباركا فيه عددَ حبَّات الرَّمْلِ وما ينزلُ من السَّماء من قَطَرَات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، شهادةً ندَّخِرُها ليوم الحَسَرَات، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ، ولا أبٌ ولا أمٌّ حَنُونٌ، إلا من أتى الله تعالى سليمَ القلبِ قد أدَّى الأمانات، وأشهد أن سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُهُ، اختاره الله إماما هاديًا، وناصحًا مرشدًا، فَخَتَمَ ببعثته الرسالاتِ، وكشفَ به الغُمَّةَ ومحا الظلماتِ، فصلَّى الله عليك يا عَلَمَ الهدى ونورَ الدُّجَى، وسلَّم تسليما كثيرا، إذِ اعْتَبَرْتَ العقل مناطَ التَّكْلِيف، فَرَفَعْت من شأنه بقولكَ (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَام والنُّهَى)، وعَلَّقْتَ به ما أَلْزَمَ اللهُ به من وَاجباتٍ، حيثُ قلت (رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثٍ،… وعنِ المجنُونِ حتَّى يعقل)، فعُلِم بأن التَّكْلِيف قد رُفِعَ عمَّنْ لمْ يَعْقِلْ، فلن تَحْمِلَ صحيفتُه الأوزارَ والسيئات، ألا واتقوا الله عباد الله وراقبوه في الجهرِ والخلواتِ، وحافظوا على نعمة العقل، وما أَكْرَمَكُمُ الله به من نعم سابغات، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)، ألا وإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدى هُدَى محمد u، وشرَّ الأمور محدثاتُهَا، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وبعد: فقد قال الله تعالى في محكم البيان: ( وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [المؤمنون: 80]

أيها المؤمنون: إن هذه الآية الكريمةَ، تتحدَّثُ عن قدرة الله المطلقةِ، فَذَكَرَتْ أُنْمُوذَجَيْنِ جَلِيَّيْن على ذلك، فهو سبحانه وتعالى المتصرِّفُ في خلقه إماتةً وإحياءً، وهو عزَّ وجلَّ مكوِّر الليل على النَّهار، ثم ذُيِّلَتِ الآيةُ بالاستفهام التَّقْرِيرِيِّ (أفلا تَعْقِلُونَ)، تنويها بشأن العقل والفكر، وتقريرا لمكانة التَّدَبُّرِ والنَّظَرِ.

إن الآياتِ الكريمةَ التي ذُيِّلَت بهذه الفاصلة القرآنية (تَعْقِلُونَ) قد فاقتِ العشراتِ، من ذلك قولُهُ تعالى (لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكم كتابا فيه ذِكْرُكُم، أفلا تَعْقِلُونَ) [ الأنبياء: 10]، وقوله عز وجل ( قال رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كنتم تَعْقِلُونَ) [الشعراء: 28]، وقوله عزَّ من قائل ( وباللَّيْلِ أفلا تَعْقِلُونَ) [الصافات: 138]، وكلها ناطقةٌ بنعمةِ العقل العظيمة، ومكانته الرَّفيعة.

ونجد بالمقابل تَشْنِيعَ القرآن الكريم على أناسٍ عطَّلُوا عقولهم وحَوَاسَّهُم عن معرفة الحقِّ سبحانه، فَنَعَتَهُمْ بأنهم أَضَلُّ من البهائم العَجْمَاوَاتِ، فقال تعالى: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنِّ والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هو الغافلون) [الأعراف: 179]

وقد عدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام من حَرِصَ على محاسبة نفسِهِ في دنياه، عاقلاً حصيفًا، ومن اتَّبَعَ الأمانيَّ وهواهُ؛ أحمقَ عاجزًا، فعن شدَّادِ بن أوس رضي الله عنه عن النبي u قال: « الكيِّسُ من دان نفسه وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجزُ من أَتْبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله» -رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن-

عباد الله: إنَّ مِمَّا أجْمَعَتِ الأُمَّةُ على تقريره أن العقل مناطُ التَّكْلِيف، إذْ به تُعْقَلُ الأُمورُ، و به يُمَيَّزُ الصَّواب من الخطأ، فلا تكليفَ على غيرِ بالغٍ، أو فاقِدِ عَقْلٍ، فقد جاء في سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه، عن النبيِّ u قال: « رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النَّائم حتَّى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتَّى يحتلمَ، وعن المجنون حتى يَعْقِلَ».

جاء في عون المعبود نقلا عن الإمام السبكي قوله: ( رَفْعُ القلم هل هو حقيقة أو مجاز؟ فيه احتمالان: الأول وهو المنقولُ المشهورُ: أنه مجاز لم يُرِدْ فيه حقيقةَ القلم ولا الرَّفْعِ، وإنَّمَا هُوَ كنايةٌ عن عَدَمِ التَّكْلِيفِ، ووجهُ الكنايةِ فيه: أن التَّكليفَ يَلْزَمُ منه الكتابة؛ كقولهِ ‘كتب عليكم الصيام’ وغير ذلك، ويلزم من الكتابة القلم، لأنه آلة الكتابة، فالقلم لازمٌ للتكليفِ، وانتفاءُ اللاَّزم يدلُّ على انتفاء ملزومِهِ، فلذلكَ كنَّى بنفيِ القلم عن نفي الكتابة، وهي من أحسنِ الكنايات، وأَتَى بلفظ الرفع إشعارا بأن التكليف لازم لبني آدم، إلا هؤلاء الثلاثة، وأن صفة الوضع ثابت للقلم، لا ينفكُّ عنه عن غير الثلاثة موضوعا عليه) اهـ.

أمة العقل والفهم: إن مما قرَّرَته شريعةُ رَبِّنَا الغرَّاءُ-بَلْهَ كلُّ الشرائع السَّماويَّة- أن مقصِدَ العقل من الكلياتِ الخمس الكبرى التي أُمِرْنَا بالمحافظة عليها، قال حجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي قدس الله سره:        ( ومقصود الشرع من الخلق خمسةٌ: وهو أن يحفظ عليهم دينَهُم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكلُّ ما يتضمن هذه الأصولَ فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يفوِّتُ هذه الأصولَ فهو مفسدة، ودَفْعُهُ مصلحةٌ).

وقد جمع الإمام اللَّقَّانيُّ في جوهرته هذه الكلياتِ بقوله:

وحفظُ دينٍ ثم نفسٍ مالْ نسَبْ     ومِثْلُهَا عقلٌ وعِرْضٌ قَدْ وَجَبْ

كما يقرِّرُ علماءُ المقاصد-وفي مقدِّمتهم الإمامُ الشَّاطبيُّ- أن مراعاة هذه المقاصدِ الكلِّيَّة يَكُونُ بحفظها وجودا وعدما، حيث قال: ( والحفظُ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبِّتُ قواعدها، وذلك عبارةٌ عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلالَ الواقعَ أو المتوقَّعَ فيها، وذلك عبارةٌ عن مراعاتها من جانب العدم) اهـ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر:

  • من باب حفظه من جانب الوجود: أمَرَ الشرعُ الحنيف بتنمية الفكر، وإعمال النظر، وتحرير العقل من سلطان الجهالة والخُرَافة، فحرَّم السِّحرَ والشَّعْوَذة والدَّجَلَ، ومنع الإنسان التَّخَوُّضَ في ما لا عِلْمَ له به من مُغَيَّبَاتٍ وغَيْرِهَا إلا بسلطانٍ من العِلْمِ متينٍ، فقال تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) [الإسراء:36]، وقال أيضا: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) [غافر: 56]
  • ومن باب حفظه من جانب العدم: فقد حرَّم الشرع كلَّ ما من شأنه أن يُلْحِقَ الضَّرَرَ أو الفساد بنعمة العقل، لذا حَظَرَ الإسلام تعاطيَ المُسْكرات والمخَدِّرات، وما يدور في فلكهما تحريما آكدا، وأوجب العقوبة والحدَّ على فعل ذلك.

أمة العلم والفكر:

ولعلَّ من أهم ما يدلِّلُ على أهمِّيَّة إعمال الفكر وتحكيمِ العقل، ما نصَّ عليه علماؤنا في مباحثَ كثيرةٍ أصوليَّةٍ وفقهيَّةٍ، كالحديث عن العلل التَّعَبُّدِيَّةِ أو معقولةِ المعنى، وينبني على ذلك إجراءُ الأحكام الفقهية فيها كالقياس وغيره، فنجدُ الشَّرْعَ مثلا يُعَلِّلُ الأحكام التكليفية بما تُدْرِكُه العقول، فشرَعَ الزكاة تطهيرا للمال من شوائبه كالبخل والشح والأَثَرَةِ، وسدَّا لخَلَّةِ الفقراء، ودفعاً لحركة المال في دورته الاقتصادية، كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء، وشرَعَ البيع والشراء لتبادل المنافع، وتيسير سبُل الحياة، وشرع الزواج حفاظا للنسل والعرض، ولأجل عمارة الكون، ولا شكَّ أن هذه المعاني إنما أُدْرِكَت بإعمال العقل؛ وإمعان النظر.

أمة الخيرية: إن للعقل شرفا ومكانةً، ومن عظيم قدره، ورفيع شأنه، أن اخْتَلَفَ مع العلم –الذي أجمعت الإنسانية على فضله- أيُّهُمَا نال السبق، وحاز الشرف؟

علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا    من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا

فالعلم قال: أنا أحرزتُ غايته         والعقلُ قال: أنا الرحمن بي عُرِفا

فأفصح العلم إفصاحا وقال له          بأيِّنا الله في قرآنه اتصفا

فبان للعقل أن العلم سيِّدُه     فَقَبَّلَ العقلُ رأس العلم وانصرفا

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم، ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبيِّ المصطفى، ومن بآثاره اقتفى، وبعهد الله وفَّى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فإن العقل الذي ينبغي التنويهُ به، والالتفافُ حوله، هو العقلُ الذي يهتدي بنورٍ من العلم النافع الصحيحِ، ويستنيرُ بقبسٍ من وحيِ السماء الذي جاء به الرسل والأنبياء، إذْ إنَّ فصْلَ العقل عن الوحي، إنما هو فتحٌ لبابٍ خطير، يَصْعُبُ سَدُّهُ، وهو تغليفُ المعقول بلباسِ الهوى والتَّشَهِّي، وكم من قضية دعا لها الملبِّسُون على الدين بدعوى العقلانية والمعقولية، وهي في حقيقتها هدمٌ لأركان الدين، وخروجٌ عن الجادَّة والفطرة.

ألم يدَّعِ المبطلون ردحًا من الزمن بأن الربا ضرورةٌ اقتصادية، ونعتُوهَا بالمصلحة، وهي في حقيقتها هدمٌ لأركان الاقتصاد، وإفسادٌ لجوهره؟

ألم يزِعُمِ المرجفون بأن الحرِّيَّة المطلقة التي لا قيدَ لها من أهمِّ ما يعزِّز الكرامة الإنسانية، وهي في حقيقتها خروجٌ عن كلِّ خُلُقٍ وفضيلة؟

أمة العقل والفكر: إن مما ينبغي الحرصُ على تجسيده في واقعنا، هو إعمالَ الفكرِ المنتج الذي يصنع التغييرَ الإيجابيَّ في سلوك الفرد والمجتمع، فيولِّدُ نهضةً علمية؛ وإقلاعا حضاريًّا، يعيد للأمة الإسلامية مجدها التليدَ، ويصدقُ فيها شهادة الحق تعالى بأنها أمة وسط؛ شاهدةٌ على كلِّ الأمم، فقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا) [البقرة: 143]

ولتحذرِ الأمةُ من الوقوع في مزالق المدنية المعاصرة،-كما نبَّهَ لذلك فيلسوفُ الحضارة الأستاذُ مالك بن نبي رحمه الله- من تقديسٍ للأشخاص أو الأشياء، إذ التَّعَلُّقُ بالأشخاص والذَّوات، يقود إلى صناعة الأصنام البشرية، وهو مؤذنٌ بخراب العُمْران، وتعظيمُ الأشياء، ينتجُ مجتمعا مادِّيًّا، تُتَّخَذُ فيه المادةُ إلها يُعْبَدُ من دون الله، وهو مؤذنٌ أيضا بالفساد العريض.

وأمةُ الشهادة والحضارة هي التي ينتج عقلها أفكارا حيَّةً ولَّادَةً-لا ميتة ولا قاتلة-، تصنعُ حاضرا مشرقا، وتستشرف مستقبلا زاهرا.

عبادَ الله: إنّي داع فأمِّنُوا.

 

#مقصد #العقل #في #الإسلام #الحوار #الجزائرية

- Advertisement -spot_img

Stay Connected

0المشجعينمثل
0أتباعتابع
0المشتركينالاشتراك

Related Articles

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا